وجدتـُني من حيث لا أدري ، في حديقة الاستقلال ، فلا أعرفُ متى خرجت ، و لا كيف وصلت إليها ، جالساً لوحدي ، و بجانبي علبة ( بيبسي ) مطعوجة و مُطجـِعة على جانبها ، فتذكرت بأنني أول ما خرجت ، قد ألفيتها عند عتبة دارنا فارغة ، فركلتها ( طااااااااف ) – و أصابعي العشرة حتى البراجم في جيبيّ – و توالت الركلات ( طربااااااااف ) جاعلاً في كل مرة ( ركلة ) نقطة توقفها نصب عينيّ ، و هكذا رافقتني من البركة حتى البلاد ، و عند الرصيف المُقابـِل لجامع الحسابات ، قابلتني لافتة ( السفير ) – التي يلتهم قائمها ثلاثة أرباع الرصيف – مكتوبٌ عليها : ( دعوة لحضور الحفل الساهر ، الذي سيقام في مصيف القرية السياحية بقاريونس ، و سيحييه الفنان صلاح رخيص و الفنانة سُمية ) فقذفت العلبة إلى أعلى ( بونتة مع الصبع ) لتـُصيبَ صورة رخيص .. طرشاااااق .

في خلفي ، تهجع تلك العمارة الضخمة المُتعدِّدة المكاتب ، التي لم يستفِد منها المواطن الليبي في شيء ، إذ أنها تستلم منه ملفاً إدراياً ، سعره ربع دينار ، و تسلمه إيصال استلام بالخصوص – لا قيمة له – الذي جاء لأجله ، فيضعه في جيبه ، و يعود به فرحاً ، فتمضي الأيام حُسوماً ، و هوّ يُراجع هذه المكاتب في طوابقها ( راقي نازل ) كما مؤشر الترمومتر الحراري ، و لا يسمع من موظفيها سوى كلمة ( ما زال ) و تتلاحق السنون تِباعاً ، حتى ينسى الأمر ، فتضيع مصلحته في مصلحة الأملاك العامة ، ( الغامة ) على الملفات ، فلا يستلم منها مسكناً و لا قطعة أرض و لا بديلاً و لا تعويضاً ، و تتبخر أحلامه ، عند أعلى نقطة ، يمكن أنْ يطولها مؤشر الترمومتر الزئبقي .

أمامي ينهض مبنى فندق ‘ عمر الخيام ‘ المهجور ، الذي يمثل بنظري ، واجهة مدينة بنغازي من جهة الغرب ، حينما يبدو للواصل ، هو و عمارة ( كانون ) المُطلان معاً على ( الكابترانية ) أكثر جمالاً من مبنى جمعية الدعوة الإسلامية ، و مبنى فندق تيبستي ، و يزداد بهاؤهما ، لما يقترب منهما أكثر فأكثر ، و حالما ينزل من جسر طريق طرابلس في سبيله إلى وسط المدينة .

على يميني ثمة مركز شرطة المدينة في حالة طوارئ و استنفار قصويين ، لوجود أهالي ضحايا ( قهرة بوسليم ) أمامه ، و هم يحملون لافتات و شعارات نارية ، أدركت لحظتئذٍ لِمَ الحديقة فارغة ، و أنا باق  وحيداً ، فيبدو أنّ روّادها ، الذين كنت أراهم دائماً في مثل هذا التوقيت ، من كل يوم ( دلال العفسة و الحل ) .. تـُحاذي هذا المركز ، دار عرض بنغازي ، التي تتعانق و تتعالق عليها ( السّقالات ) مع وقف تنفيذ أعمال الصيانة .

يا لهذا العبث ، الذي أودى بمدينتي إلى هذه النمطية ، فالفندق مهجور و العمارة هاجعة و السينما خربة و الحديقة فارغة ، و لا سلات للمهملات فيها ، فاستودعت فيها علبة الـ ( بيبسي ) عند أحد مقاعدها الخشبية ، ريثما يعود ‘ ملك الحديقة * ‘ و أقرانه الصِّغار إليها – بعد أنْ ينتشر المتظاهرون من أهالي ضحايا ( بوسليم ) فهو و أصدقاؤه ، يشاركون بالهتاف معهم من دون أنْ يدروا ماهية القضية – ليتقاذفوها بأقدامهم الغضّة ، و انسرفت .

قصدت سوق الجريد ، سالكاً شارع شيخ الشهداء ، و عند كشك ‘ الطشاني ‘ توقفت لبُرهةٍ مُلقياً بنظرةٍ شاملة على ما يعرضه من صُحفٍ و مجلاتٍ ، بطريقةٍ مُلفِتةٍ للنظر ، فالصُّحف و المجلات الليبية ( الفجر الجديد ، الشمس ، الجماهيرية ، قورينا ، أويا ، مجلة غزالة ، مجلة الثقافة العربية ، مجلة الفصول الأربعة ، مجلة البيت ) مُعلقة جميعها على مشاجب في الخارج ( الهامش ) أما نظيراتها العربيات ( الأهرام ، المصري اليوم ، مجلة وجهات نظر ، العربي ، زهرة الخليج ، اليقظة ، الجيل ، طبّب نفسك ) ففي الداخل ( المتن ) لحمايتها من الريح و الشمس ، لم ترُقني أية واحدة منها .. دخلت إلى مبنى البريد المركزي ، لأفتحَ ( ص . ب ) خاصتي ( 1544 ) و لأجدَ فيه نسختين من مجلة ( القافلة ) الصادرة عن شركة ( أرامكو ) السعودية ، و مجلة ( فكر و فنّ ) في نسختها العربية ، الصادرة عن معهد ( غوتة ) الألماني ، حاضرتين في الموعد تماماً ، و مجاناً .

مضيت قـُدما نحو وجهتي ، بعد أنْ عبرت الشارع إلى الجهة الأخرى ، خشية أنْ تسقط عمارة ( السرقسيوني ) المتهالكة فوق رأسي ، فقد أصبحت كما القنبلة الموقوتة ، التي في أية لحظة ، قد تهوي من علٍّ ، و بعد أنْ تجاوزتها بخط مواز لها ، عدت و عبرت الطريق من جديد ، مُقبـِلاً على ميدان البلدية الجميل ، الذي لم يعرف ( الأعدقاء ) في أمانة المرافق و جهاز المدينة القديمة ، كيف يستثمرون هذا الميدان التاريخي الجميل ، فهو بتصوري ، لا يصلح لأنْ يكون ميداناً تجارياً ، لتـُباع فيه الملابس النمطية ، فالكل هناك ، يبيعون الملابس التركية و الصينية و التايلندية ، فلا تميُّز و لا تفرُّد في العرض ، فهذا الميدان بمحاله ، يجب أنْ يتحول إلى مقاهٍ أنيقة الجلسات .

وصلت بعد لحظات إلى الجامع العتيق ، و استدرت إلى يمينه ، لأقفزَ على عتبات سوق النور ( الثلاثية ) في وثبة واحدة ، ليتصدر ليّ بائع الدولارات : ( اتصرف يا أستاددد ؟ ) .

– أنا : شكراً .. صحّيت .

– هو : ما عمرها جت منك تضحك .

– أنا بنوبة غيطاوية : أحسن عملة عمر المختار .

من نقطة تصدره ليّ ، و حتى مدخل سوق الجريد ، كان هذا حواري مع أصحاب حرفته ، الذين غالباً ما يتواجدون هناك ، هم و بائعو النظّارات السودانيون ، يتخللهم شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة ( الذهنية و المادية ) يضع أمامه ميزاناً غير رقمي ( انالوق ) و على رأس لسانه ، لفظة : ( توزن بربع ؟ ) أحياناً أتجاوزه ، لكني أرجع إليه ، لما أسمعه يتمتم ، فأزن نفسي عنده ، خشية أنْ تصيبني دعوته ، و بمجرد أنْ أقف على قاعدة ميزانه القديم ، يجبر بخاطري ، فيرفع الكسر ، لكونه لا يجيد إلا قراءة الأرقام الصحيحة .. دخلت إلى سوق الجريد الظليل ، و أول من قابلني بائع مصري ، يبيع فوط ( مناشف ) الحمام ، الخمسة بدينار ، يعرضها و يضعها على كتفه ، و يمسح بإحداها رقبته و جبينه المُتصفـِّد عرقاً ، على اليمين ،  هناك عجوز تفترش الأرض ، بقطعة قماش ( متر × متر ) تطرح عليها ( بخور و فاصوخ و وشق و شبّة – لوبان ايطرشق –  اسواك نسائي و رجالي – لاميتات و أمواس حلاقة – بطاريات أصبع و ريمونت – فيكس فابوراب و فيكس نيجيري بالشيح – مسك و عنبر – معجون أسنان – مُزيل بطشة لإزالة الصّنان – بوية سودة و حمرة – سباسي رياضي و مالبورو – ولعات الاثنين بربع – بريزات و مفاتيح ضي – لامبات بربع دينار – و ما عاقبة حاجة إلا و اتبيع فيها ) بجانبها أكثر من عجوز ، تبيع الحاجات نفسها ، في وسط ممر السوق ، ثمة مسرب ، تمرُّ في حوضه ماء المجاري ، و يقف بائع صغير مع أخيه ، يعرضون بضاعتهم على عربة خشبية تقوم على دواليب صغيرة ، و شيخ مصري بصير ، يتلو آي الذكر الحكيم على أرواح الفقراء و المحرومين الليبيين ، الذين يجوبون السوق ، و لا يحتكمون على دينار واحد – في وسط الجلبة و صياح الباعة – يجلس أمام أحد محال بيع المجوهرات ، و شاب ليبي ملتزم بقربه ، يقعد على ( ابلوكه جيرية ) يبيع أجود العطور الحجازية ، لم ألمح أحداً يشتري ، الكل مثلي ، يمشون من دون وجهة معينة ، عند واجهة أحد معارض الذهب ، مرّرت بجوار شاب و فتاة ، يبدو أنها خطيبته ، سمعتها تسرُّ إليه : ( هضا أكثر واحد يمشي في بنغازي ) – تقصدُني – و لأني كثير المشي ، كما قالت ( مشّيتها لها ) .. حدثت بلبلة في السوق : ( جاكم الحرس يا هووووووو ) و في لمح البصر ، كان كل الباعة خارج السوق ، عابرين الزورايب الفرعية المؤدية إلى شارع البعجة و الصلابي و الشويخات ، سمعت إحدى العجائز ، تدعو عليهم : ( عطهم برص .. ما خلونا نسترزقو على حالنا ) و هي تقوم بثني قطعة القماش ، التي تعرض عليها أشيائها ، بطريقة فنية ، إذ يبدو أنها أعدّتها لمثل هذه الطوارئ ، فقامت بثنيها مرتين ، و أقفلتها بالـ ( سوستة ) فأصبحت مثل الحقيبة ، التي تحفظ كل شيء فيها و مضت مُسرعة .. رجعت إلى الخلف ، ليس بسبب تواجد عناصر الحرس البلدي ، بل لأني أعرف النمطية ، التي يعاني منها هذا السوق هو الآخر ، من ناحية البضائع المعروضة فيه ، فهي أيضاً من المصدر نفسه ، فلا تميُّز و لا تفرُّد فيه و لا فيها .

عندما تقهقرت ، جاءتني مُهاتفة من الصديق الفنان ‘ هيثم ‘ و أنا أعرفه جيداً ، فمتى اتصل بيّ ، فهذا يعني ، أنه يعاني من الشعور بالنمطية القهرية ، اتفقنا أنْ نلتقي عند مكتبة أبيه سابقاً ، الموجودة في شارع المجاهد ‘ أحمد الشريف ‘ لمحته واضعاً يديه في وسطه ، و معه قيثارته ، و هو ينفخ آهات مزمار القلق ، و يزفر ناي الملل .. عند الزقاق الواصل بين شارع اقزير و الساحة الخلفية لسوق الحوت ، توقفنا هناك لدقائق معدودة ، لنشاهد الجدارية ، التي قام أحد المواهب بنقش رسومات لأعلام من بنغازي – عمر المختار و الفضيل بوعمر و أحمد المهدوي و خليفة الفاخري و علي الشعالية و محمد صدقي و شادي الجبل و غيرهم – بالألوان الزيتية عليها ، و التقط ليّ ‘ هيثم ‘ هذه الصورة – جاعلاً هذه الجدارية خلفية لها ، فإذا لم نصور معهم في حياتهم ، فلا بأس أنْ نصور معهم في مماتهم – بعدسة نقاله الصيني ( المعمشة زي اعوينات صانعيها ) :

بدا ليّ ‘ هيثم ‘ في حالة وجدانية عالية ، و مستعداً لإخراج ( البغدد ) على أوتار قيثارته ، لكنه عدِم المكان المناسب ، فلا مسرح مُعدّ لذلك ، و لا منتدى للفنانين الشباب في المدينة ، مرّرنا بعد حين بشارع العقيب ، و عند البيت الثقافي ، أخبرته بأنّ هذا الصرح الجميل ، يجب أنْ يفتح أبوابه لك ، و لمن مثلك من الموهوبين ، و ألا يُخصّص فقط للشعراء و القصّاصين ، فأيننا نحن من الأمسيات الفنية ؟ لكن هذا لن يحدث ، و لا ترتجيه قريباً يا عزيزي ، طالما أنّ اللافتة التي على بوابته مكسورة ، فـ ( المكتوب بائنٌ من عنوانه ) .. هيا يا صاحبي ( ما لنا امفيت حديقة 23 يوليو ) .. جلس ‘ هيثم ‘ هناك و احتضن قيثارته الجديدة ، و بدأ يدندن عليها بهمس ، و هو يتتبع أصابعي ، التي أشير بها إلى العمارات المُطـِلة على شارع جمال عبد الناصر بعد الصيانة الجديدة ، انظر يا هيثم إلى ألوان طلائها الباهتة و الكئيبة ، فأغلب هذه العمارات ، أختير له الألوان الترابية ، حتى أنّ بعضها ، لا تفرق بين لونه و لون ( لياسة ) الأسمنت ، بل أنّ ألوانها تتشابه ، فلا تستطيع أنْ تصف لأحد ما ، أية عمارة منها بلونها ، فيا لهذه النمطية و التشابه في كل شيء الذي يغلب على مدينتنا ، حينذاك ، صرّح لي ‘ هيثم ‘ بهمس ، مثل همس قيثارته : ( يا ازويدة هضا مش مقياس .. راهو في ناس مخلصين يخدمو في بنغازي و يشتغلو تحت الأرض ) و قبل أنْ أسأله عن هؤلاء السُّفليين ، أجابنا أنبوب المجاري ، الذي كان بقربنا و أسفلنا : ( وججججججج ) في بحيرة 23 يوليو ، قاذفاً ( علبة بيبسي ** ) كأول شيء ، ثم مياه سوداء ، فانقطع أحد أوتار قيثارة ‘ هيثم ‘ و عدنا أدراجنا ، و نحن نكاد ننفجر من الضحك على هذه الإجابة الفورية ، مُردِّداً له عبارته : ( قالك في ناس تحت الأرض يخدمو فيها ! .. ما تموا إلا شواطين .. ههههههه ) .

المصدر : المنارة للاعلام  … هنا ..

هى مدينة بحرية بكل ما يوحى به البحر من مغامرة و غموض و حيوية  .  انها تزدحم بالمئات – بل بالالاف – من البشر و السيارات فى شوارعها الفسيحة ، و ضجيج لا حد له .  ترى البشر أمامك من مختلف المستويات ، و بالرغم من كثرتهم فهناك مجال حركة للجميع .  هناك حراك ، هناك رغبة فى الحياة ، هناك مد مستمر للاندفاع للامام رغم كل المعوقات .  ترى فى شوارع الاسكندرية أناسا مسرعي الخطى نحو هدف معين ، و ترى أناسا يمشون رويدا بلا هدف ، و ترى شحاذين و متسولين و بائعين متجولين و مختلقى أعمال لا معنى لها – مثل تبخير السيارات و حمايتها من قوى غامضة و غير منظورة – مما يذكرك بعصور سحيقة ، و لكن الجميع يجمعهم هدف نهائى واحد و هو صراع البقاء .  و فى المقاهى المنتشرة على شاطئ البحر ترى الكثيرين صباحا جالسين باسترخاء بين ارتشاف الشاى و قراءة الجرائد .

هناك حراك تشعر به فى تدفق هذا المد البشرى الهائل ، و هذا الكم من السيارات .  الكل فى حركة مستمرة ، و عند المساء و بعد غروب الشمس يجتمع الالاف فى الاشتراك بالتمتع بنسمة الهواء النقية الاتية من الشمال ، و بالرغم من الازدحام الهائل فانك تحس بأن المكان مازال يسع أخرين .  و تجلس فى احدى مقاهى الكورنيش و يمر أمامك بشر من جميع الاطياف ، و يعرض خدماته عليك بائعون متجولون يغرونك بشراء ما لا يخطر على بال ، و ماسحى احذية لا يدعونك حتى توافق على خدماتهم ، و أخرون .

و عندما تزور مكتبتها الشهيرة التى هى احياء لاحدى معالم العالم القديم فانك ستنبهر بما قامت به مصر اليوم لاحياء معالم مصر الامس .  و لا يكلفك زيارة المكتبة أكثر من دفع جنيهان مصريان تتمتع مقابلهما بعروض لتاريخ المكتبة بلغات عدة ، و بالتجول فى داخلها الفسيح .  و تستطيع أن تزورها الكترونيا … هنا .  أما مساء فيمكنك التمتع بالتردد على احدى مسارحها المنتشرة على كورنيشها البهيج .  هى مدينة الاسكندرية عراقة و حداثة فى مزيج فريد و غريب .

وا هوية (وصية عبد ميت) – محمد التميمى

عافنى السيد،  ما اتخذنى ولدا،

توجَّس من إسمى، و توجَّس من جلدي و من رسمى،  فجعلنى عبدا.

هل كنت له نِدَا  هل كنت وجدت بُدًّا   أم داهمتنى الذرائع

هل قلبت أرض بذارا   هل بدَّل الكون الشرائع

قل خشيتُ قل جبنتُ قل ما شئت،    قبلت خاضعا  طائع

حتى إذا ما جُعت،  تسوَّلت،  توسَّلت

فإن مُت، عبد مات، متى استغرب الأسياد أمرا شائع

في وصيتي كتبت:

لا تذكروا ما صرت

لا تذكروا ما كنت

لا تنطقوا اسمى

لا تنسبو لى ولدا أو بنت

قولوا ميت هذا هنا،

ترحموا، أو العنوا  و تساءلوا إن شئتوا

من أي زمن أتى   في أى ناحية في الأرض قد مشى  ماذا كان قال أو فعل

الله أعلم بسره،  إن كان يوما كفَّ عن الأمل

ذاك   ذاك  مربط الجمل

إن كفَّ الناس عن أن يأملوا؛ قد كفَّوا أن يتنفسوا،

لن تُنْجِهم  بُنُوَّةُ لِهُبَلْ

لم يفسد الهواء من غازات  و لن تجدى كمامات

فالخنقة داخلية،  في الرئة و في الخلية

فيا بلال و سلمان و أميه

يا طلعة الشمس الشرقية

وا  هويه  وا  هوية

سطور معبرة من ملحمة غنية عن التعريف وهي احد ملاحم الشعر الشعبى.  أول من بدأ هذه الملحمة (( احوال حايلة )) الشاعر محمد بن زيدان، ثم تناولها مجموعة من الشعراء منهم الفضيل المهشهش وبو رويلة المعداني وعمر بوعوينة وحسين لحلافي.

احوال حايله بين المنام وطيبه .. احوال جبدهن للناس فيه الغيبــــه

احــــوال عجايــــب .. منهن سقيم العقل فكره غايـــــب

ان شاكيت ما تلقى حذاك حبايـب .. مفيت الشوامت بالخلاف تجيبـــه

احوال هــــــــوايــل .. احوال حايله بين القدم والجَّايــــل

احوال سرزهن تحت الشريحه مايل .. احوال بدهن ما عاد فيه نشيبـــه

طاحن رواويق اللجام دقايـــل .. اندق بالحلق عدي بعيد الصيبــــه

وطاح الكتاب بدين عصيه نصايـل .. وتفرتك كباس الجلد والتعصيـــه

احوال خلفن للعاقلين علايـــل .. مرض في الجواجي كادهم تطبيبــه

مفيت ما الله بيده يدير دلايــــل .. واللى عند ربي فرض ميش صعيبه

احــــوال يكـَـــــدَّن .. احوال بالغَرايب كل يوم يجدَّن

احوال كل باب وكل فَجْوة سَدَّن .. مفيت ما يحنَّ الله عالم غَيْبة

لَرَانب يدَيْهن للجَّوارح مَــــــدَّن .. وجا السَّبع للقَطًّوس يسْتذْرِي بَه

عَلَيْه الثعالـــــب صايْلات تعَدَّن .. بْقِي بينهن مَذْلول ماله هَيْبه

وكـــانَنْ ان تَاوَق من بعيد يردَّن .. مغير زَوْمْتَه ترْبِي عليه الرِّبيه

احـــوال يعلَّــــــن .. احوال واحْلات ، احوال ما ينْحَلَّن

اللي يقول فاتَنِّي عليه يــــوَلَّن .. يجدَّن عليه بْشَيّْ مو داري بَه

يجدن عليه بشي مــــو في باله .. ولا كان في ظنَّه انَّه يَلْفَي له

لَيَّام ع الْبْنادم يْبرمَنْ بالدَّاله .. ما هْناك يوم ولا وراه طلِيبه

ما هناك يوم ولا وراه طرِيده .. تْجِيبه بالشّقا ليله هْموم نكيده

وتجيه بالهَنا ليله افراح سعيده .. الليل والنهار يجَنْ بكل عَجيبه

الليل والنهار يجَنْ بكل أَوامــر .. يخلَّن اللي مرتاح ديما سامر

توجد نسخة كاملة من القصيدة … هنا ..

هذه قصة حدثت لمواطن من مدينة بنغازي يحكى فيها عن تجربته عن إعدام صك مصدق ضاع منه ، و عن الإجراءات الإدارية العقيمة التي تكبدته خسارة لم يكن حتى مسئولا عنها فالصك المصدق أضاعته جهة عامة نتيجة لإهمال موظف مقصر .  القصة نشرت في العدد 2124 من أخبار بنغازي الصادر اليوم الخميس الموافق 08/04/2010 ، تحت عنوان ” إعدام مكلف جدا “ .  و بعد أن يتوجه هذا المواطن بالشكر للعاملين بالصحيفة لإتاحته الفرصة لنشر مقاله ، يبدأ في سرد قصته …. اقتباس ..

” لقد تقدمت كأي مواطن للحصول على مادة الاسمنت (400 كيس) و أرفقت الأوراق المطلوبة و معها صك مصادق عله بقيمة 1154 دينارا بتاريخ 11/09/2007 و تحصلت على فاتورة للمراجعة تحت رقم 4354 بتاريخ 06/04/2008 .  و بعد عدة مراجعات طلب منى موظف الخزينة صكا مصادقا عليه بقيمة 265 دينارا كزيادة عن الثمن و سلمت الصك بالقيمة المطلوبة بتاريخ 03/06/2008 إلى الموظف المختص و تتابعت المراجعات للحصول على الاسمنت و في إحدى المرات كانت المفاجأة و هي أن الصك الأخير لا وجود له !!  و طالبني موظف الخزينة بضرورة  دفع قيمة الإضافة على الثمن فأعلمته بأني قد أحضرت الصك و سلمته له فرد بأن الصك غير موجود و يجب إحضار صك أخر بالقيمة المطلوبة في السابق مضافا إليها زيادة جديدة و اعتبار الصك السابق و كأنه ضاع منك ، و عليك الشروع في إجراءات إعدام الصك لتحصل على قيمته المحجوزة بالمصرف …. و نظرا لحاجتي الماسة للاسمنت اضطررت لتقديم صك جديد بالقيمة المطلوبة ثم بدأت في ماراثون إجراءات إعدام الصك للاستفادة بقيمته المحجوزة . و بعد اخذ الاستشارة من الموظف عن خط البداية ذهبت إلى مركز شرطة البركة مجبرا ، و فتحت محضرا أقررت فيه بأن الصك إياه قد ضاع منى ( و ليس من موظف الخزينة ) ، و عرضت المحضر على خزينة المصرف لتؤكد بأن هذا الصك لم يصرف .  ثم ذهبت إلى مصرف التجارة و التنمية وكالة البركة للتأكيد بأن الصك لم يسحب و أن قيمته موجودة .  بعد ذلك تقدمت بعريضة إلى رئيس محكمة جنوب بنغازي الابتدائية بطلب إعدام الصك ، و قد كلفت اجراءات العريضة 15 دينارا و بعد ثلاثة أيام صدر الأمر القضائي بإعدام الصك .  و توجهت به لإدارة المصرف حتى يتم الإفراج عن قيمته ، و لكن المستشار القانوني بالمصرف طلب منى نشر الحكم القضائي بصحيفة أخبار بنغازي فقمت بالنشر في الصحيفة الذي كلفني 30 دينارا .  و حملت نسخة من العدد إلى المستشار القانوني بالمصرف الذي أخبرني بأنه يلزمني للإفراج عن الصك النشر بالجريدة الرسمية و ربما يقصد مدونة التشريعات التي لم أعرف مكانها إلى الآن ، و قد أخبرني أيضا أن قيمة النشر في الجريدة الرسمية حوالي 90 دينارا ، و للعلم فان جزء كبير من الإجراءات كلفت به ابني نظرا لظروف العمل .

و بعد هذا السرد الذي أعتقد بأنه فوق الممل أتساءل مندهشا : كيف يتم تسلم صكوك مالية من دون إيصال بذلك ؟  و من المسئول عن الوقت و الجهد الضائعين بسبب إهمال موظف ؟  و من يعوض ذلك ؟

ان تكاليف الإجراءات المادية اكبر من قيمة الصك المعدوم تقريبا ناهيك عن الجهد البدني و المعنوي .  ان هناك كثيرين غيري و سيلحق بنا آخرون ما لم تكن هناك وقفة جادة من الإدارات المسئولة لتصحيح هذا الخلل .

كما أنني أتساءل إلى متى تصر الجهات العامة على استغلال حاجة المواطن لتفرض عليه مواقف و إجراءات ليست في صالحه ؟!!  و تقبلوا منى كل الشكر و التقدير ، و ليوفقنا الله إلى ما فيه صالح القول و العمل . ”  …… انتهى الاقتباس ..

نلاحظ من سرد أخينا المواطن لقصته ما يلي :

1 – تقدمه للحصول على مادة الاسمنت مع تسليمه صكا مصدقا بالسعر المعلن كان بتاريخ 11/09/2007 ، و صدرت له فاتورة للمراجعة بعد حوالي السبعة أشهر ، و طلبت منه تكلملة الزيادة الأولى بعد شهرين آخرين ، و طلبت منه تكملة زيادة ثانية بعد مدة لم يحددها .  نستنتج من هذا أن سعر الاسمنت زاد مرتان بعد استلام الطلب مع صك مصدق بالقيمة ، و إذا اعتبرنا بأن قبول المصنع بصك المواطن بمثابة عقد ما بين المواطن و المصنع فلا يحق للمصنع المطالبة بزيادة في السعر لتأخره في التسليم ، و للأسف لم نعرف تاريخ حصوله على الاسمنت ان حصل عليه أصلا .

2 – اضطر المواطن للكذب طوعا بإقراره بضياع الصك منه شخصيا ( و ليس من موظف الخزينة بمصنع الاسمنت ) في مركز الشرطة حتى يكمل إجراءاته .

3 – حسبما فهمت فان المواطن لم يتحصل على قيمة صكه الضائع حتى الآن ، فأين تذهب هذه القيمة ، حسابيا هي مرصودة لمصنع الاسمنت ، و فعليا فهي مازالت في مصرف التجارة و التنمية ، و واقعيا فإنها خارج حساب المواطن .

4 – واقعيا فان كل ما تكبده هذا المواطن من خسارة جهد و وقت و مال كان موظف الخزينة بمصنع الاسمنت هو السبب فيه ، فكيف يستطيع مطالبته بالتعويض عن ذلك ؟

و كان الله في عونك أخي المواطن .

أكاذيب جارية في بنغازي

منقول من مدونة جود لجابر نور سلطان

إن لم تتح لك فرصة زيارة بنغازي ،خلال الأسبوعين الأخيرين من شهر 2-2010  ،فقد فوت على نفسك فرصة تاريخية، لمشاهدة الكذب مشاهدة حقيقية،في أبرز ظهور له منذ فترات طويلة.   لا نغمط متعهدي الكذب حقوقهم و ندعي غياب الكذب و عدم توافره في مدينة بنغازي خلال السنوات الفائتة، فهذا مجانب للحقيقة، و إنكار بيّن لجهود جهابذة الكذب و حرصهم على وجوده في متناول الجميع، وثمة نقطة مهمة يجب التذكير عليها ،ألا وهي حرص صناع و وكلاء الكذب على توافر الكذب بكميات كبيرة، وضخه بشكل يومي فلا يكاد المواطن من سكان تلك المناطق أن يفقده.لكن الكذب هذه المرة كان ظهورا باذخا أقرب إلى كرنفال ، كرنفال للكذب، لا يستطيع ناقد أن ينقده، فقد برزت فيه مواهب نادرة ،و ظهرت قدرات فائقة، تؤهل لمنافسات عالمية.

كميات هائلة من الكذب تفاقمت بسرعة هائلة،و توزعت بكرم زائد على الشوارع و الميادين، والأشياء التي كنا نظن أنها غائبة أو مغيبة  عن أذهان من يتولى الأمانة و المسؤولية، وجدناهم يستعينون بالسيد الكذب لإنجازها،فالأشجار البائسة المشعثة المنتشرة من دون عناية استيقظت فجأة مذعورة على وقع المقاص التي تخترق فروعها، و تقلم أغصانها و الفرشاة التي تضرب ساقها، توشوشت الأشجار العتيقة تحت وقع الذهول متسائلة ما الذي يحدث؟ و من هؤلاء و ما الذي ذكرهم بنا؟.

ومن واقع أعمارها المتقدمة ،وما تحتفظ به ذاكرتها ،أدركت الأشجار أن أولئك الذين يحاصرونها ليسوا متخصصين .  ما حدث للأشجار حدث لمجمع سكني كامل أكلت عماراته المبنية من عقود الرطوبة، تشققت جدرانها،و بدت كئيبة حزينة لعدم وجود صيانة حقيقية لها، هي أيضا ذعرت و انتفضت بما تبقى لها من قوى و هي تحاصر في ساعات متأخرة من الليل بسقالات و هرج و مرج وصخب ،و إصرار على تزويقها على الرغم من تشبعها بسيول من الرطوبة عبر عشرات السنين،

حالة الذهول المشوب بالذعر انتابت أيضا أعمدة الكهرباء، في عدد من الطرق الرئيسة المسكونة بالظلمة منذ سنوات طويلة، و أخذت تقرص نفسها و تفرك عينيها، لتتأكد أن ما تشاهده واقع، وأن هذا السلم الذي على الرغم من تطوره لم تزل تذكره – يلتف على قامتها حقيقة.

الأرصفة المهجورة المتربة ،الطرق عديمة الملامح والتخطيط ،الجزر التي أنفق عليها الملايين و كثير منها أهمل ، الجميع عاش حالة من الذهول ،شباب يحملون  “علب الزواق والفرش ” و يخططون الطرق بطريقة عشوائية، وسط السيارات المنطلقة، ليس هذا فحسب ،بل و العهدة على الراوية أن لتخطيط الطرق نوعا معينا من الزواق بمواصفات عالمية،و ليس هذا الذي تم التحايل به.

مظاهر عديدة تجلى فيها الكذب، و سجل حضورا طاغيا و كان بإمكان الناس مشاهدته على مدار الساعة ، فوق عامود كهرباء،متسلقا شجرة، متمشيا على شاطئ مهجور، يخطط طريقا متربة، يصر على تزويق عمارة مائية.

ونؤكد كي لا نبخس أحدا من منتجي الكذب، أو مروجيه حقه، فإن الكذب كان موجودا و منتشرا ، لكنه لم يأخذ هذا الشكل الكرنفالي، و للحقيقة أيضا لا بد من ذكر محاولات مستمرة لتطوير الكذب، عبر السنوات الفائتة و الاستفادة من التقنيات الحديثة خاصة اللافتات الملونة الكبيرة المذهلة التي كان لبنغازي نصيب الأسد منها، عديد المشاريع الملونة المزركشة تصدرت المواقع المهجورة،منها على سبيل المثال لا الحصر مشروع الشاطئ الشرقي لمدينة بنغازي عمره ربع قرن أو يزبد كلفت مخططاته الملايين في منتصف السبعينيات ليشكل نهضة حقيقية في بنغازي، لكنه للأسف لم يتم، منذ عدة سنوات جاءت اللجنة الشعبية كاملة إلى بنغازي ووضعت حجر الأساس لعدة مشاريع من بينها مشروع الشاطئ الشرقي،حينها كنت أعمل في موقع جليانه و كتبت مقالا بعنوان ” الحكومة تحيي الأموات في بنغازي ” و كنت أقصد المشاريع الديناصورية في بنغازي، رافق الزيارة حضور متطور للكذب حضور ملون ببروز لافتات ضخمة تعلن عن بدء تنفيذ تلك المشاريع.  لأشهر قليلة صمدت ثم ذهبت مع الريح.  بعضها لم تزل خرق منه تلوح في الهواء.  ومما يحسب أيضا في ميزان التطور تلك السياجات الهائلة و الجدران الحديدية العازلة التي أخذت تنتشر على مساحات هائلة يتصدر بعضها لافتات من ذلك النوع الذي تحدثنا عنه.

لا أريد أن أسهب في الحديث عن هذا الكرنفال، على الرغم من تناولنا التهكمي للموضوع إلا أنه يثير المرارة و يشعر بالحزن و الأسى ،أن تصل الأمور من البعض إلى هذا الحد من الإساءة و تغيير الحقائق والتلفيق.

هذا البلد طاهر مضمخ بدماء الشهداء ليس بحاجة إلى حملات نظافة وهمية ، وساطع بأرواح المجاهدين، ليس بحاجة إلى مصابيح “مضروبة” و زاه بفنونه وثقافته ليس بحاجة إلى أزوقه مغشوشة.هذه المدينة خضراء متشحة بالثورة و ببيانها الأول ليست بحاجة إلى نجيلة مزيفة.

لقد خصصت المليارات، لكنها نهبت في وجود ثقافة مقيتة مسيطرة، تبيح السرقة و الغش و الرشوة.،و الاستغلال .  تنتج بشكل يومي ظواهر خطيرة تضعف الانتماء للوطن بقيمه الأصيلة وتنال من الانتماء للثورة بقيمها النبيلة. تنمي الأنانية البغيضة.

نحن بحاجة إلى مراجعة صريحة جريئة لكل أركان و أسس وقيم منظومة المفاهيم في ليبيا، على شريعة من الثوابت و الركائز و الخيارات الإيجابية الحقيقية.

نحن بحاجة إلى محبين حقيقيين متفانين في حب ، ليبيا لسنا في حاجة إلى موظفين بعقلية روتينية.

أراهن على صديقي الأنيق الفنان التشكيلي الجميل المستوحى لوحاته من الصحراء الليبية و تجلياتها، محب الأوبرا و السيمفونيات العالمية، محب الهوية بكل تفاصيلها، و أعلن أن لدي مصلحة حقيقية فيه مصلحة بحجم الوطن، و بحجم الحلم بغد يليق بهذا البلد و بتضحياته و إسهاماته الإنسانية، في الماضي و الحاضر.  أراهن على محبين حقيقيين نزيهين.

كي لا نرى لاحقا كرنفالات للكذب علينا أن نعيد تقييم و تقويم علاقتنا بالوطن و بالثورة ، بعيدا عن الكذب والغش و الخداع.

على الرغم من كل هذا يجتاحني تفاؤل لا حصر له في مقدرة هذا الوطن و ثورته على نسج خيوط فجر ضاف بالطهر و بالنور و بالفرح و السعادة. كي يختفي الحزن و الإحباط من أعين الشباب لينخرطوا في برامج حقيقية و مشاريع تنموية تحترم قدراتهم و تعيد إليهم أحلامهم المنهوبة. لتخرج من جيوبهم أقراص الهلوسة لتضع مكانها بذور الأمل، و تنزع من أوردتهم حقن الهرويين وتبسط عليها راحة السكينة و الطمأنينة، لتنتشل المغرر بها الفقيرة من براثن الدعارة ،وتوشحها بوشاح العفة، لتنقذ أرملة الشهيد من مخالب أنصاف الرجال الذين يساومونها، وتهيئ لها عيشا كريما، لتحفظ ماء وجه شيخ يستجدي مدير المصرف خمسين دينارا “ع الحمر”.

نحن بحاجة إلى من يعيد إلينا الوطن المهرب في دهاليز الصفقات،و خفايا المخططات، و فناءات و” مسابح الدارات، ومسارب الحسابات،و المزادات و المضاربات.

نريد للافتة “أعمال جارية” أن تكون أعمالا كاذبة أعمالا و وهمية غير حقيقية.

قصة قصيرة للكاتب الاردنى فخري قعوار

(1)

حتى هذه اللحظة لا أدرى لماذا حدث لي كل ذلك ، و لم اعثر على تعليل مقنع و حاسم يبرر ما قام به الرجل ذو النظارة السوداء من أعمال غير مألوفة ، كما لا أعرف حتى الآن ، كيف احتملت كل إساءاته و أذاه بهدوء و صبر .

(2)

– أأنت الاستاذ “خ”؟

– نعم .

– و تعمل فى المدرسة المجاورة لهذا المقهى ؟

– نعم .  و لكن لم نتشرف بالمعرفة .

– أغلق فمك و أنهض .

– و لكنني أريد أن أعرف الجهة التي  سنقصدها .

– ليس هذا من اختصاصك .

– و هل الذي سينهض شخص غيري ؟

– لا تكثر من فلسفتك الفارغة .

– و لكنني لا استطيع التغيب عن عملي .

– أنا اسمح لك .

– و هل ستخبر المدير بذلك ؟

– سأبلغه بالتلفون .

– ليس فى المدرسة تلفون .

– حقا انك كلب و ثرثار .  انهض و …

– أ ….

(3)

أمسك بيدي ، و وضعها بين أسنانه ، و ضغط عليها بقسوة ، و يده الأخرى تفرك أذني .  ثم كف عن ذلك و أمرني بحمل الصحيفة التي كنت أقرأ فيها و التزم الصمت ، حتى لا نثير انتباه الآخرين الجالسين فى المقهى .

(4)

– ألا نستطيع أن نشرب فنجان قهوة معا ؟

– لا تحاول أن تبدو طيبا .  انهض .

(5)

فكرت بالهرب ، و لكنى وجدت أنه سيجر على مزيدا من الأذى ، و فكرت فى أهميتي التي تجعل هذا الرجل الغامض يقتادني بهذه الطريقة ، فلم أجد ما يستحق اهتمامه ، مجرد معلم غير حائز على الثانوية العامة ، و يدفع عشرة دنانير شهريا لتسديد سلفة بنكية ، و لم يعرف امرأة واحدة فى حياته ، سوى أنه فاز بقبلة من ابنة الجيران الذين انتقلوا الى بيت أخر ، و يواظب على قراءة صحيفة يومية واحدة ، و يدخن صنفا رخيصا من السجائر ، و يجيد الشطرنج الذي يلعبه فى أوقات متباعدة .

و كدت أصرخ فى هذا الرجل الكابوس الذي يسير الى جانبي ، لكن الصوت مات فى حلقي .

و ادخلنى الى شوارع و دهاليز و أزقة و طوابق لا تنتهي ، ثم توقفنا فى غرفة مليئة بالجماجم و الهياكل العظمية و الصور العارية ، و فيها لوحة كبيرة لرجل جليل ذي لحية مفروقة الى شطرين ، و يدخن غليونا ، و يعلق على كتفه بندقية من طراز قديم ، و كل جدار من جدران الغرفة مطلى على شكل رقعة شطرنج كبيرة .

(6)

– أتحب أن تشرب قهوة الآن ؟

– أشكرك .

– أتعرف لماذا جئت بك الى هنا ؟

– لا أعرف .

– كي أسألك بضعة أسئلة فقط .

– أهذا كل شئ .

– نعم هذا كل شئ .

– و لكنك كنت تقدر أن تطرح على هذه الأسئلة فى المقهى .

– كان بامكانى أن أطرح عليك هذه الأسئلة فى المقهى ، هذا صحيح ، و لكنني لن أحصل على الإجابة التي أريدها فى غير هذا المكان .

– ربما .

– لا ، بالتأكيد ، قل لي منذ متى بدأت بمارسة لعبة الشطرنج ؟

– لا أذكر .

– مهنتي أن أجعلك تتذكر .

– منذ أكثر من سبع سنوات .

– و منذ متى بدأت بتدريب زملائك على هذه اللعبة ؟

– لم أدرب أحدا .

– مهنتي أن أجعلك تعترف بتدريبهم .

– ألاعبهم أحيانا .

– أليست ملاعبتهم تدريبا ؟

– نعم هي تدريب .

– و لكنك ستتوقف عن ممارسة هذه اللعبة اعتبارا من اليوم .

– لا .  من قال ذلك ؟

– أنا الذي قال ذلك .

– سأحاول .

– بل ستتوقف نهائيا .

– سأتوقف نهائيا .

– أتحب أن تشرب فنجان قهوة الآن ؟

– أشكرك .

(7)

و حينما خرجت ، كنت أكثر حماسة لممارسة اللعبة ، و لكن بعيدا عن مراقبة الرجل ذي النظارة السوداء .

 

***** الكاتب الاردنى فخري قعوار كان أمينا عاما للاتحاد العم للأدباء و الكتاب العرب من عام 1992 و حتى 1997 ، و قد صدرت هذه القصة ضمن منشورات كتاب فى جريدة  إصدار شهر فبراير 2010 .

 ولدت مدونة ليبية جديدة لصاحبها محمد مختار الساعدى مع أول تدوينة له بعنوان ” من الفيزياء الى العواطف و بالعكس ” .  تتناول التدوينة موضوعا طريفا و ذكيا حاول فيه محمد تفسير التوتر و الإجهاد النفسي بقوانين فيزيائية …

المدونة تحت هذا الرابط :

صدى الأفكار

فمرحبا بالأخ محمد مختار الساعدى فى عالم النت …

غابة الرجمة المسماة نسبة لقرية الرجمة ( و المسماة بدورها نسبة لبئر كان يسمى الرجيمة ) ، و التي تبعد حوالي 25 كلم شرق مدينة بنغازي ، هي منطقة تلال و مرتفعات ، ترتفع حوالي 300 متر عن سطح البحر . تبدأ هذه المرتفعات من وراء مطار بنينا و تستمر فى الارتفاع شرقا و شمالا نحو سفوح الجبل الأخضر فيما وراء مدينة المرج .   منطقة الرجمة شهدت حملات تشجير شعبية واسعة ابتداء من الستينات و السبعينات و حتى الثمانينات ، و هي إحدى منتجعات سكان مدينة بنغازي للزرادى و الفسحة و التريض .  المؤسف فى الأمر أن أشجار هذه الغابة شهدت مرضا غريبا يصيب الأشجار لاحظته شخصيا منذ فترة التسعينات ، تصبح الشجرة فيه تنز سائلا كالدم لونا على سواد من جذعها حتى تفقد عصارتها الحيوية ثم يصيبها الجفاف و بعده تسقط وتصبح هدفا للحطابين .

يوم أمس و فى جولة سريعة فى أطراف غابة الرجمة رايت منظرا حزينا لأشجار عدة و قد ماتت و تبدو آيلة للسقوط ، فهل سنقول يوما أين ذهبت كل هذه الأشجار ؟

162_6219

162_6221

162_6226

DSC01158

DSC01160

DSC01164

DSC01167

DSC01170

DSC01171

الارشيف

  • 183٬527 hits